فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



مثال ذلك إن ضاعت من أحدكم حافظة نقوده، وسارقها غيب، ومكانها غيب عن صاحبها، لكن الذي سرقها عارف بمكانها، إذن فهذا غيب على المسروق، ولكنه ليس غيبًا على السارق. لأنه ليس غيبًا مطلقًا، وهذا ما يضحك به الدجالون على السذج من الناس، فبعض من الدجالين والمشعوذين قد يتصلون بالشيطان أو الجن؛ ويقول للمسروق حكاية ما عن الشيء الذي سُرق منه هؤلاء المشعوذون لا يعرفون الغيب؛ لأن الغيب المطلق هو الذي لا يعلمه أحد، فقد استأثر به الله لنفسه.
ومثال آخر: الأشياء الابتكارية التي يكتشفها البشر في الكون، وكانت سرًا ولكن الله كشف لهم تلك الأشياء، وقد يتم اكتشافها على يد كفار أيضا. فهل قال أحدٌ: إنهم عرفوا غيبًا؟ لا؛ لأن لمثل هذا الغيب مقدمات، وهم بحثوا في أسرار الله، ووفقهم سبحانه أن يأخذوا بأسبابه ما داموا قد بذلوا جهدًا، والله يعطي الناس- مؤمنهم وكافرهم- أسبابه. وما داموا يأخذون بها فهو يعطيهم المكافأة على ذلك. ولله المثل الأعلى، وسبحانه منزه عن كل تشبيه، أقول لكم هذا المثل للتقريب:
المدرس الذي يعطي تمرين هندسة للتلميذ ليقوم بحله، فهل مجيء الحل غيب.؟ لا؛ لأن التلميذ يعرف كيف يحل التمرين الهندسي؛ لأن فيه المعطيات التي يتدبر فيها بأسلوب معين فتعطى النتيجة. وما دام التلميذ يخرج بنتيجة لتمرين ما بعد معطيات أخذها، فذلك ليس غيبًا.
ولذلك فعلينا أن نفطن إلى أن الغيب هو ما غاب عن الكل، وهذا ما استأثر الله بعلمه وهو الغيب المطلق، وهو سبحانه وتعالى يطلع عليه بعضًا من خلقه من الرسل، وهو سبحانه القائل: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} [الجن: 26-27].
وأما الأمر المخفي في الكون، وكان غيبًا على بعض من الخلق ثم يصبح مشهدًا لخلق آخرين فلا يقال أنه غيب، وعرفنا ذلك أثناء تناولنا بالخواطر لآية الكرسي: {اللَّهُ لا إله إلا هو الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255].
إن الحق سبحانه قد نسب هنا الإحاطة للبشر، ولكن بإذن منه، فهو يأذن للسر أن يولد، تمامًا كما يوجد للإنسان سلالات ولها أوقات معلومة لميلادها، كذلك أسرار الكون لها ميلاد.
وكل سر في الكون له ميلاد، هذا الميلاد ساعة يأتي ميعاده فإنه يظهر، ويحيط به البشر. فإن كان العباد قد بحثوا عن السر وهم في طريق المقدمات ليصلوا اليه ووافق وصولهم ميعاد ميلاده، يكونوا هم المتكشفين له. وإن لم يحن ميعاد ميلاد هذا السر فلن يتم اكتشافه واذا حان ميلاد السر ولم يوجد عالم معملي يأخذ بالأسباب والمقدمات فالله يخرج هذا السر كمصادفة لواحد من البشر. وحينئذ يقال: إن هذا السر قد ولد مصادفة من غير موعد ولا توقع.
وأسرار الله التي جاءت على أساسها الاكتشافات المعاصرة، كثير منها جاء مصادفة. فالعلماء يكونون بصدد شيء، ويعطيهم الله ميلاد سر آخر. إذن فليس كل اكتشاف ابنًا لبحث العلماء في مقدمات ما، ولكن العلماء يشتغلون من أجل هدف ما، فيعطيهم الله اكتشاف أسرار أخرى؛ لأن ميلاد تلك الأسرار قد جاء والناس لم يشتغلوا بها. ويتكرم الله على خلقه ويعطيهم هذه الأسرار من غير توقع ولا مقدمات.
ويستمر سياق الآية: {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} وهو سبحانه يخاطب المؤمنين. والحق سبحانه وتعالى إذا خاطب قومًا بوصف، ثم طلب منهم هذا الوصف فما معناه؟. ومثال ذلك قول الحق سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ} [النساء: 136].
إنهم مؤمنون، والحق قد ناداهم بهذا الوصف. معنى ذلك أنه يطلب منهم الالتزام بمواصفات الإيمان على مر الأزمأن لان الإيمان هو يقين بموضوعات الإيمان في ظرف زمني والأزمان متعاقبة لأن الزمن ظرف غير قارٍ. وغير قارٍ تعني أن الحاضر يصير ماضيًا، والحاضر كان مستقبلًا من قبل. فالماضي كان في البداية مستقبلًا، ثم صار حاضرًا، ثم صار ماضيًا. والزمن ظرف، ولكنه ظرف غير قار.. أي غير ثابت. لكن المكان ظرف ثابت قار. فكأن الله يخاطبك: إن الزمن الذي مر قبل أن أخاطبك شُغِل بإيمانك، والزمن الذي يجيء أيضا اشغله بالإيمان.
إذن معنى ذلك: يا أيها الذين آمنوا داوموا على إيمانكم. {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} ولنا أن نتصور عظمة عطاء الحق، فالمنهج الإيماني يعود خيره على من يؤديه، ومع ذلك فالله يعطي أجرًا لمن اتبع المنهج. إذن فعندما يضع الحق سبحانه وتعالى منهجًا فإنه قد فعله لصالح البشر وأيضا يثيبهم عليه، وهو يقول: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى} [طه: 123-124].
إن المتَّبع للمنهج يأخذ نفعه ساعة تأدية هذا المنهج. ويزيد الله فوق ذلك أنه سبحانه يعطي المتبع للمنهج أجرًا، وهذا محض الفضل، وقلنا من قبل: إن العمر الذي يمده الله للكافرين والمنافقين ليس خيرًا. إذن فعلى الناس أن يأخذوا المسائل والأزمنة بتبعات وآثار ونتائج ما يحدث فيها. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
اللام في {ليذر} تُسمَّى لامَ الجحودِ، ويُنْصَب بعدها المضارع بإضمار أن ولا يجوز إظهارها. والفرق بين لام كي أن هذه- على المشهور- شرطها أن تكون بعد كون منفي، ومنهم من يشترط مضي الكونِ، ومنهم من لم يشترط الكون.
وفي خبر كان- هنا- وما أشبه قولان:
أحدهما: قولُ البصريينَ- أنه محذوفٌ، وأن اللامَ مقوية لتعدية ذلك الخبرِ المقدَّر لِضَعْفه، والتقدير: ما كان الله مُريدًا لأن يَذَر، وأن يذر هو مفعول مريدًا والتقديرُ: ما كان اللهُ مُريدًا ترك المؤمنين.
الثاني: قول الكوفيين- أن اللامَ زائدةٌ لتأكيدِ النفي، وأن الفعل بعدها هو خبرُ كانَ واللامُ عندهم هي العاملةُ النصْبَ في الفعل بنفسها، لا بإضمار أن والتقدير عندهم: ما كان الله ليذرَ المؤمنين.
وضعَّف أبو البقاء مذهبَ الكوفيين بأنّ النصب قد وُجِد بعد هذه اللامِ، فإن كان النصبُ بها نفسها فليست زائدةً، وإن كان النصبُ بإضمار أن فسَد من جهة المعنى لأن أن وما في حيزها بتأويل مصدر، والخبر في باب كان هو الاسم في المعنى، فيلزم أن يكون المصدر- الذي هو معنى من المعاني- صادقًا على اسمها، وهو مُحَالٌ.
وجوابه: أما قوله: إن كان النصبُ بها فليست زائدةً ممنوع؛ لأن العملَ لا يمنع الزيادةَ، ألا ترى انَّ حروف الجَرِّ تُزاد، وهي عاملة وكذلك أن عند الأخفشِ، وكان في قول الشاعر: [الوافر]
وَجِيرَان لَنَا كَانُوا كِرَام

كما تقدم تحقيقه ويذر فعل لا يتصرف- كَيَدَعُ- استغناء عنه بتصرُّف مرادفه- وحُذِفت الواو من يذر من غير موجب تصريفي، وإنما حُمِلَت على يدع لأنها بمعناها، ويدع حُذِفت منه الواوُ لموجب، وهو وقوع الواو بين ياءٍ وكسرةٍ مقدرة وأما الواو في يذر فوقعت بين ياء وفتحةٍ أصليةٍ. وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى: {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا} [البقرة: 278].
قوله: {حتى يَمِيزَ} حتى- هنا- قيل: هي الغائية المجرَّدة، بمعنى إلى والفعل بعدها منصوب بإضمار أن وقد تقدم تحقيقه في البقرة.
فإن قيل الغاية- هنا- مشكلة- على ظاهر اللفظ- لأنه يصير المعنى: أنه تعالى لا يترك المؤمنين على ما أنتم عليه إلى هذه الغاية- وهي التمييز بين الخبيثِ والطَّيِّبِ- ومفهومه أنه إذا وُجِدَت الغاية ترك المؤمنين على ما أنتم عليه.
هذا ظاهرُ ما قالوه من كونها للغاية، وليس المعنى على ذلك قَطْعًا، ويصيرُ هذا نظيرُ قولكَ: لا أكَلِّم زيدًا حتى يقدم عمرو، فالكلام منتفٍ إلى قدوم عمرو.
فالجوابُ عنه: {حَتّى} غاية لمن يفهم من معنى هذا الكلام، ومعناه: أنه تعالى يخلص ما بينكم بالابتلاء والامتحان إلى أن يميز الخبيثَ من الطيبِ.
وقرأ حمزة والكسائي- هنا وفي الأنفال- {يُمَيِّزَ} بالتشديد- والباقون بالتخفيف، وعن ابن كثيرٍ- أيضا- {يُميز} من أماز فهذه ثلاث لغاتٍ، يقال: مَازَه وميَّزه وأمازه. والتشديد والهمزة ليسا للنقل؛ لأنّ الفِعْلَ- قبلهما- مُتَعَد، وإنما فعّل- بالتشديد- وافعل بمعنى: المجرد. وهل ماز ومَيَّز بمعنًى واحدٍ، أو بمعنيين مختلفين؟ قولان. ثم القائلونَ بالفرق اختلفوا، فقال بعضهم: لا يقال: ماز، إلا في كثير، فأما واحدٌ من واحدٍ فميَّزت، ولذلك قال أبو مُعاذٍ: يقال ميَّزتُ بين الشيئين تَمْييزًا، ومِزْت بين الأشياء مَيْزًا.
وقال بعضُهُمْ عكس هذا- مزت بين الشيئين مَيْزًا، وميَّزت بين الأشياء تمييزًا- وهذا هو القياس، فإنَّ التضعيفَ يؤذن بالتكثير، وهو لائقٌ بالمتعددات، وكذلك إذا جعلتَ الواحد شيئين قلت: فَرَقْت:- بالتخفيف- ومنه: فرق الشعر، وإن جعلته أشياء، قلت: فرَّقْتها تَفْرِيقًا.
ورجَّح بعضُهم مَيَّز- بالتشديد- بأنه أكثر استعمالًا، ولذلك لم يستعملوا المصدر إلا منه، قالوا: التمييز، ولم يقولوا: المَيْز- يعني لم يقولوه سماعًا، وإلا فهو جائز قياسًا.
قوله: {وَلكِنَّ} هذا استدراكٌ من معنى الكلامِ المتقدمِ؛ لأنه تعالى- لما قال: {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ} أَوْهَمَ ذلك أنه لا يُطْلِعُ أحدًا على غيبه؛ لعموم الخطابِ- فاستدرك الرُّسُلَ. والمعنى: {وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي} أي يصطفي {مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} فَيَطْلِعُهُ على الغيبِ، فهو ضِدٌّ لما قبله في المعنى، وقد تقدم أنها بين ضِدَّيْنِ ونقيضَيْن، وفي الخلافين خلافٌ.
يَجْتَبِي: يصطفي ويختار، من: جَبَوْت المال والماء، وجبيتهما- لغتان- فالياء في يجتبي يُحْتَمَل أن تكون على أصلها، ويُحْتَمل أن تكون منقلبةً عن واوٍ؛ لانكسارِ ما قبلها.
ومفعول يَشَاءُ محذوفٌ، وينبغي أن يقدر ما يليق بالمعنى، والتقدير: يشاءُ إطلاعه على الغيب. اهـ. بتصرف.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)}
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: قالوا إن كان محمد صادقًا فليخبرنا بمن يؤمن به منا ومن يكفر؟ فأنزل الله: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه...} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس قال: «يقول للكفار {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه} من الكفر {حتى يميز الخبيث من الطيب} فيميز أهل السعادة من أهل الشقاوة».
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: يقول للكفار لم يكن ليدع المؤمنين على ما أنتم عليه من الضلالة حتى يميز الخبيث من الطيب، فميز بينهم في الجهاد والهجرة.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: ميز بينهم يوم أحد. المنافق من المؤمن.
وأخرج سعيد بن منصور عن مالك بن دينار أنه قرأ {حتى يميز الخبيث من الطيب}.
وأخرج عبد بن حميد عن عاصم أنه قرأ {حتى يميز الخبيث من الطيب} مخففة منصوبة الياء.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {وما كان الله ليطلعكم على الغيب} قال: ولا يَّطلع على الغيب إلا رسول.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء} قال: يختصهم لنفسه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك {يَجْتَبي} قال: يَسْتَخْلِص. اهـ.

.التفسير الإشاري:

قال نظام الدين النيسابوري:
التأويل: قد ذكرنا أن النفس يبقى لها نوع تعلق ببدنها. فالآن نقول: إن روح الشهيد مخصوص بمزيد تعلق ببدنه جزاء له على تعجيب إذاقة مرارة الفراق عن الدنيا، ولهذا لا تبلى أجساد كثير منهم وتبقى غضة طرية وكأنهم هم الشهداء في الحقيقة، وهكذا أجساد الكاملين من النبيين والصديقين الذين قتلوا أنفسهم بسيوف الرياضات، ومطارف الأذكار، وأسنة ألسنة الطاعنين، وتجرع سموم مخالفات النفس، ومكايدة الشيطان حتى ماتوا بالإرادة وحيوا بالطبيعة. وليس كل تعلق بهذا العالم سببًا للتألم بل بعضه سبب اللذة والابتهاج {يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} [يس: 26-27] وكما ورد في حديث الشهداء «من يبلغ إخواننا عنا إنا في الجنة» والذي جاء فيه «إن أرواحهم في أجواف طير خضر» فلعل ذلك جزاء لهم على خروج الدم والأبخرة اللطيفة منهم ظلمًا. فمن الممكن أن يخلق الله تعالى من ذلك جسمًا لطيفًا شبه طائر، ويكون لروح الشهيد به مزيد تعلق حتى تحركه ويطير حيث شاء من السماء والأرض وإلى الجنة بإذن الله تعالى. وأما كون الطيرخضرًا فإما لأن بدن الميت يميل إلى الخضرة، وإما أن يكون عبارة عن النضرة {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} [المطففين: 24] وإما لأن حالهم بالنسبة إلى ما سيؤل إليه أهل الجنة والنار يوم القيامة كالمتوسط بين الحالين الذين يعبر عنهما بالبياض والسواد في قوله: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} [آل عمران: 106] وهذه المعاني ما وجدتها في كتب التفسير والتأويل، وأرجو أن أكون مصيبًا فيها الغرض والله تعالى ورسوله أعلم بمرادهما. اهـ.

.تفسير الآية رقم (180):

قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان من جملة مباني السورة الإنفاق، وتقدم في غير آية مدح المتقين به وحثهم عليه، وتقدم أن الكفار سارعوا في الكفر: أبو سفيان بالإنفاق في سبيل الشيطان على من يخذل الصحابة، ونعيم أو عبد القيس بالسعي في ذلك.
وكان المبادرون إلى الجهاد قد تضمن فعلهم السماح بما آتاهم الله من الأنفس والأموال، وكان الله سبحانه وتعالى قد أخبر لما لهم عنده من الحياة التي هي خير من حياتهم التي أذهبوها في حبه، والرزق الذي هو أفضل مما أنفقوا في سبيله، ذم الله سبحانه وتعالى الباخلين بالأنفس والأموال في سبيل الله فقال رادًا الخطاب إليه صلى الله عليه وسلم لأنه أمكن لسروره وأوثق في إنجاز الوعد: {ولا تحسبن} أي أنت يا خير البرية- هذا على قراءة حمزة، وعند الباقين الفاعل الموصول في قوله: {الذين يبخلون} أي عن الحقوق الشرعية {بما آتاهم الله} أي بجلاله وعز كماله {من فضله} أي لا لاستحاقهم له ببخلهم {هو خيرًا لهم} أي لتثمير المال بذلك {بل هو} أي البخل {شر لهم} لأنهم مع جعل الله البخل مَتلفة لأموالهم {سيطوقون} أي يفعل من يأمره بذلك كائنًا من كان بغاية السهولة عليه {ما يخلوا به} أي يجعل لهم بوعد صادق لا خلف فيه بعد الإملاء لهم طوقًا بأن يجعله شجاعًا أي حية عظيمة مهولة، تلزم الإنسان منهم، محيطة بعنقه، تضربه في جانبي وجهه {يوم القيامة} لأن الله سبحانه وتعالى يرثه منهم بعد أن كان خوّلهم فيه، فيجعله بسبب ذلك التخويل عذابًا عليهم، روى البخاري رضي الله تعالى عنه في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آتاه الله مالًا فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعًا أقرع، له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه- يعني بشدقيه- يقول: أنا مالك! أنا كنزك!- ثم تلا هذه الآية».
ولما كان هذا طلبًا منهم للإنفاق، وكان الطالب منا محتاجًا إلى ما يطلبه، وكان ذو المال إذا علم أنه ذاهب وأن ماله موروث عنه تصرف فيه؛ أخبر تعالى بغناه على وجه يجرئهم على الإنفاق فقال عاطفًا على ما تقديره: لأنه ثمرة كونه من فضله فلله كل ما في أيديهم: {ولله} أي الذي له الكمال كله {ميراث السماوات والأرض} أي اللذين هذا مما فيهما، بأن يعيد سبحانه وتعالى جميع الأحياء وإن أملى لهم، ويفنى سائر ما وهبهم من الأعراض، ويكون هو الوارث لذلك كله.
ولما كانت هذه الجمل في الأخبار عن المغيبات دنيا وأخرى، وكان البخل من الأفعال الباطنة التي يستطاع إخفاؤها ودعوى الاتصاف بضدها كان الختم بقوله: {والله} أي الملك الأعظم.
ولما كان منصب النبي صلى الله عليه وسلم الشريف في غاية النزاهة صرف الخطاب إلى الأتباع في قراءة غير ابن كثير وأبي عمرو، وهو أبلغ في الوعيد من تركه على مقتضى السياق من الغيبة في قراءتهما، وقدم الجار إشارة إلى أن علمه بأعمالهم بالغ إلى حد لا تدرك عظمته لأن ذلك أبلغ في الوعيد الذي اقتضاه السياق: {بما تعملون خبير}. اهـ.